أرضية مفروشة بالرمال. آثار لأصابع أقدام تأخذ حبّات الرمال قليلاً بعيداً، وباطن القدم ينقلها أو ينثرها في الهواء إذ يشكل هلالاً يرسمه في الهواء، دافعاً طرف ذيل الوشاح البرتقاليّ المتدلي حتى ركبته اليمنى، فيرتفع الوشاح ويدور مع الخصر مشكلاً زوبعةً. على وقع وصلة الطبلة يهز مؤخرته وينقل وزن جسمه من قدم لأخرى. يموّج بطنه عدة مرات مع دقة العود. يتداخل صوت الكمان فيقوّس جسمه المعرّى إلا من الوشاح، فاتحاً يديه في الهواء رافعًا كوع ذراعه اليمنى للأعلى قبل أن ينزله، ثمّ الذراع الأخرى أشبه بالأفاعي وهو يقوم بهدوء، فيرتطم قرطه بحركة كتفه الدائرية. يقبض شعره الطويل في يده كذيل حصان. عضلات ظهره بارزة. يلوّح بشعره في الهواء مع الإيقاع الجديد، حتى تسقط الوردة المثبتة بين خصلتين من شعره وتغط بالرمل. ومع آخر دُم على الطبلة يلتفت نحو المرآة المتكئة على الحائط ويرفع حاجبه الأيسر مبتسماً. يلقي بنظرة إلى حركة تنفسه السريعة من صدره الممتلئ. يرمي الوشاح ونفسه على السرير. تنفرج أسارير وجهه وساقيه كأنّ هناك من ينتظره. في ركن غرفته المفروش برمل من أحد شواطئ حيفا، يمارس رقصه. يخلع السماعات من رأسه ويسحبها من جهاز الموسيقى لتهبط على المكان من مكبّر الصوت أغنية قديمة.
يشد الشعر المستعار من على رأسه. يزيله مع ما علق منه بين أصابع يده، ثم يربّت على شعره بهدوء، مغمضاً جفنيّه كالقط مع كل لمسة. يحاول استرجاع قدر من الهدوء وسط ضجيج أحاطه بعد التوقف عن الرقص. استشعر حبّات العرق التي نبتت من أعلى رأسه وانسابت بين منابت شعر رأسه إلى أسفل رقبته حتى شربتها وسادته الطريّة. دارت عيناه حول المكان بدءاً من ركنها المفروش بالرمال، ومع امتداد الحائط، حيث انبسطت نماذج أبنية منحوتة كان لها أثر في تاريخ البشرية، أو مبانٍ آيلة إلى السقوط تعرض مئات السنين بين طبقاتها، وعيّنات من أحجار رتّبها فوق أكياس قماشيّة مخصصة لذلك، وكتب ارتصت في حقيبة سفر كبيرة، لينتهي نظره فوق بضعة كتيبات، ورزمة أوراق قرب ملف شفاف استلقى بجانبه على طرف المنضدة. فجأة أمسك برزمة الأوراق بين يده ثم أفلتها لتتطاير فوق وجهه ورقيته وصدره، وباشر باستنشاق رائحتها، قبل أن يرجع للوراء بضع سنتيمترات ويلتقط ورقة عليها صورته الشخصية. مرر أطراف أصابعه عليها يتحسسها، ثم مرر أصبعه السبابة على الكلمات الواردة أعلاها “تأشيرة سياحة”. أغمض عينيه واقترب بجبينه ليلصق قطرات من عرقه البارد بالملف. يتخيّل وجه حبيبه وهو يجيء باسماً ابتسامة عريضة. لا ينفك الاثنان ينظران في عيون بعضهما. تناول الملف الذي ما زال على المنضدة، وسحب من داخله أوراقاً أخرى، ثم اتجه إلى النافذة همهمًا، وفتحها. أحنى ظهره دافعاً بجسمه قليلاً عبرها ليشعر بالهواء، ثم مد بذراعه نحو الشمس ويده لا تزال ممسكة بالأوراق كأنها أوراق لا تُقرأ إلا تحت ضوء الشمس. إنها من جمعيّة لبرنامج لقاءات شبابيّة تعنى بالقضايا الجنسية والجندريّة. لن يتخلص من هذه العادة في الامساك بطرف ثوبه ولفّه حول إصبعه وهو يفكر. كانت الخطة أن يهجر حبيبه زوجته
مع نهاية العطلة الصيفيّة حتى يبقى أطول فترة ممكنة مع الأولاد، ثمّ يسافران. دار معطيًا ظهره للنافذة. لكنه كان سيخسر حياته إن لم يسبقه. وحالما رفع رأسه إلى الأعلى، تحوّل ضغط الهواء في الغرفة إلى عامود صلب دخل حنجرته ليخرج الدموع المحسورة فيه. إنّها الغصة نفسها والتكتم الذي حاول التمسّك به حتى لا ينفجر أمام أهله عندما سمعهم يتحادثون عن حبسه في غرفة بعيداً عن إخوته حتى لا ينحرفوا مثله. بشهقة ارتخت مفاصل ركبتيه، فانهد جسمه على حبات رمل حفرت مكاناً لها على جلده. بكى.
“أريد أن أكتب قصائد لقرّاء منعدمي الآباء والأمهات،
“لأنهم هم وحدهم يفهمون ما لا يمكن أن يُحكى لأحد”.
ارتج هاتفه المحمول. لم يسمعه بسبب صوت الأغنيّة الذي لا يزال ينبعث من مكبّر الصوت إلى الغرفة، أو يلمح انبعاث الضوء منه خلف دموعه. حاول أن يتذكّر لمن تلك القصيدة التي تُعاد في ذهنه، وما الأبيات التالية. نفض الفكرة من رأسه. لملم نفسه مبتعداً عن النافذة وحبا نحو سريره. قد عرّاه التعب من أي عزيمة. ثم نام.
بعدما صحي من نومه الطويل، انتبه على رسالة قصيرة من حبيبه، ومكالمة فائتة. بادله الرسالة بابتسامات دامعة ضحكاً، وأسطر من قلوب حمراء، ونيران. لم يظهر بأنه استلم الرسالة. أطفأ الموسيقى. اتصل به. أجاب رد آلي معلناً بأن الهاتف مغلق. انحنى ليشد رباط حذاءه الرياضيّ خانقاً قدميه، ثم تناول حقيبة يده. وحين أمسك بمقبض الباب التفت إلى المرآة بثقة. يبدو مظهره جيدًا حتى لو أنّ المرآة لم تعكس سوى لون الحائط المقابل. خرج من مكان سكنه في شوارع المدينة، مرتديًا عصبة ملوّنة بقوس قزح. ردود أفعال الناس لم تنم عن شيء. فتح حقيبة يده وتناول من داخلها هاتفه، وعلم مكوّن من خط أزرق عريض يليه خط زهري ثمّ أبيض. لوّح بالعلم بكلتا يديه رافعًا إياه فوق رأسه. كأنّ هنالك حاسة سابعة تستطيع أن ترى الدنيا فيها بأهدابك عندما تكون سعيداً، قال في نفسه. لكن حالما لمح جمع ناس خلفه، غُبّشت عيناه وشعر بالألم في باطن قدمه وأصبعه الكبير. ضجيج علا رأسه كأصوات عزف رديء على الكمان، وصوتٌ يسأله إن كان على ما يرام، يصل من أذنه إلى عينيّه، فتتموج الصور أمامه. ألمٌ يعتصر دُرز جمجمته. أمسكه ذلك الصوت من عنقه وحمله إلى الأعلى كأنه يحملُ قشاً، قبل أن يطيح به على ظهره. شعر بكل عظمة في عموده الفقري وهو يتهاوى إلى الأرض. تمنى لو أنّ سقوطه يودي به في الاتجاه المعاكس، إلى تلك الغيمة الرقيقة التي تتنعم بالشمس، مطلّة على الفضاء، بدلاً من إطلالته على خوفه وتستره. عندما اقترب ذلك الشخص من وجهه، انتبه لعمق التجاعيد المسترسلة من عينيه إلى وجنتيه. تهتز أصابعه الرفيعة وأوردته الزرقاء تنبض من تحت الجلد أمام عينيه. ثم أحاطت يداه بعصبته. أدار وجهه إلى اليمين ثم إلى اليسار. صاح به الرجل: “هل أنت بخير؟” فشدّ رقبته إلى الوراء، حابسًا إجابته. بدا كأنّ صوت الريح كان سيخرج من بين شفتيه لو نطق. غاصت عيناه في سواد فغره، ورأى نفسه يركض، ويلهث. وأخوه يركب دراجةً
ناريّة، يزعق بمحركها مسرعاً وراءه.
وصل طاقم الاسعاف. وضعوه على نقالة مرضى. خرج رأسه عن حافة النّقالة، فالأيدي التي حملته اهتزت فيما الخطى مسرعة. أفاق مجددًا بعدما وضعوه داخل سيارة الإسعاف. أحد المسعفين يبدو جديداً في المهنة لكثرة أسئلته للآخر. بعد الفحص تبيّن أنّ لا شيء يدعو للقلق. فقط يحتاج الراحة والغذاء. خلعوا عنه حذاءه، ثم استدلوا منه على مكان سكنه. أوصوه بالأكل جيداً. ناوله أحدهما مكعبات سكر من كيس في جيبه.
ترك سيارة الاسعاف. وصل إلى مسكنه. اتجه إلى غرفة نومه. مد نفسه على السرير، ثم أدخل يده تحت الوسادة، وأخرج قطعة قماشية معرقة باللونين الأسود والأبيض، وعانقها. وبدأ يلوّي طرف قميصه حالما أخذ يفقّس في رأسه سرب من الأسئلة؛ لم يرَ الحياة منذ سبعة وعشرين سنة، حتى التقى حبيبه. والآن ينتظره من جديد الكثير من العمى. تمتم:
“من ليس له أب أو أم يفهم الغرف الخالية،
“الكتب المغبرّة، القصائد المكبوتة،
“هو يمشي قرب موته فحسب، عميقًا داخل الجسد لمسة لينة تقوده
“من غير الحديث، أو التوقف”.
Illustration by Alexis Baydoun
Subscribe for new writing
Sign up to receive new pieces of writing as soon as they are published as well as information on competitions, creative grants and more.