Read time: 1 mins

فى مدن وسط القاهرة

by Mohamed Matbouly
26 August 2020

السابعة صباحا، أجلس فى مقهى بلدى على مقربة من ميدان طلعت حرب فى وسط القاهرة حيث عملى، طلبت من  النادل الذى عرفت أنه من أصول جزائرية الطلب المعتاد (أسبريسو)، دقائق معدودة ودخلت إيلين، فتاة عشرينية، فرنسية سمراء من أصول إفريقية، أقابلها يوميا فى نفس التوقيت تقريبا حيث تشرب القهوة معى وتذهب مسرعة لعملها بأحد محال العطور القريبة من جاليرى لافاييت فى ميدان الأوبرا بقلب باريس، تذكرت المرة الأولى التى رأيتها فيها، كان المقهى مكتظا بالزبائن ولم يكن به سوى مقعدين شاغرين أحدهما بجوارى والآخر بجوار فتاة فرنسية شقراء وهو ما توقعت أن تجلس فيه إيلين، لكنها فضلت الجلوس معى، فيبدو أن ملامحى المصرية قد جذبتها، وعلى الرغم من أننى لا أتحدث أى لغة غير العربية، إلا أننى تحدثت معها بمنتهى السلاسة وعرفت مما عرفت عنها أنها تدرس فى الجامعة بجانب عملها.

السابعة والنصف صباحا، همت إيلين بالانصراف، فقمت معها لباب المقهى والذى يمكنك من خلاله رؤية برجى لافاييت والجسر الواصل بينهما، لكننى لم أكن أخاطر أبدا بالخروج والتجول فى باريس، فماذا لو تهت ولم أستطع العودة للمقهى والمرور من بابه القاهرى إلى عملى فى ميدان طلعت حرب مرة أخرى.

فللمقهى بابان ويبدو مكشوفا جدا للمارة حيث يمكنهم بسهولة رؤية من يجلس بداخله، عدت لمقعدى لأجد حموده قد وضع الشيشة وأخذ يرص قطع الفحم المشتعلة، حموده أو حمدى هو الآخر شاب مجتهد يعمل صبى قهوجى ويدرس فى الجامعة المفتوحة.

الثامنة صباحا، أدفع حساب القهوة للنادل الجزائرى، والشيشة لحموده ثم أرحل متجها لعملى، متساءلا السؤال اليومى المعتاد وأنا فى الطريق، أترى هل يوجد فى منطقة وسط البلد مقاهى أخرى غير ذلك المقهى لها أبواب فى عدة مدن، فأقرر أن اسأل بعض المقاهى فى طريقى، لكننى فى النهاية أتراجع، فماذا لو ظنوا أننى مختل عقلى.

الرابعة عصرا، أعود أحيانا للمقهى أنتظر الأصدقاء لنمضى بعض الوقت سويا قبل العودة للمنزل، كثيرا ما يتزامن ذلك مع عودة إيلين ورغبتها فى الجلوس معى والاستماع لى قبل مغادرتها، حينها أجلس على الحد الفاصل بين مكانين، وكأننى جالس على بوابة من زجاج، أنا الوحيد الذى يمكنه رؤية وسماع ما قبلها وما بعدها، فأتسامر أنا وأصدقائى وأحكى لهم عن إيلين صديقتى الفرنسية، وأحكى لإيلين عنهم وعن حموده صبى القهوجى خفيف ظل، كانت الأحاديث تعجبها كثيرا حتى أنها أستوقفتنى ذات مرة قائلة:

-(مبتسمة)قل لهم أننى شقراء بعينين زرقاوين

-(مبتسما) أنت أجمل من أجمل شقراء رأيتها يا إيلين

-(غاضبة، وبحسم) أعرف لست بحاجة لتذكرنى بذلك، (مبتسمة) لكننى أريد أن تزيد إثارتهم، فأنا أعرف كيف يفكر الشرقيون

ثم ضحكنا سويا، قطعا لم أكن أستطع أن أحكى لإيلين كل ما يقولونه عنها، خاصة أسئلتهم عن مفاتنها، ولكن كثيرا ما كانت تفاجئنى بحديث كهذا وكأن بعض الكلمات قد مرت من البوابة إلى أذنيها، للحقيقة التسامر مع إيلين أصبح كالإدمان، فتبدو إيلين بالنسبة لى كبوابة ثالثة للمقهى ولكنها بوابة حية من لحم ودم، تأخذنى إلى عالمها الساحر، فبين القصص التى حكتها لها جدتها عن أسلافها الأفارقة وبين أحاديثها عن حاضرها كفتاة أوروبية منتمية تماما للحضارة الغربية، كان خيالى ينشط ومشاعرى تدغدغ، ولكن الأهم من كل ذلك بالنسبة لى، هو أنها عندما تضحك وتجبرشفاهها أسنانها البيضاء على الظهور، يخترق ضوء إبتسامتها قلبى، وأشعر به يخفق، شعور غريب على، لم أخبره من قبل ولم أعرف له تفسير، أو بالأحرى أخاف أن أفسره فأجد نفسى أمام اختيارات صعبة، فماذا حقا لو كنت أحب إيلين، فهل سيمكن لقصة الحب تلك أن تتنفس وهى عالقة فى المقهى، وماذا لو كنت في نظرها مجرد صديق؟، حينها سأخسرها بمجرد شعورها بأننى قررت تغيير مسار العلاقة، وهكذا تتوالى الأفكار والمخاوف.

سؤال كثير ما أطرحه، هل تصدق إيلين حقا أننى أجلس فى مكانين فى وقت واحد، وهل يصدق حتى أصدقائى ذلك، قطعا لست متأكدا، لكن الأكيد أن القصص تروقهم ويريدون أن يستمعوا لها، وأنها صارت بالنسبة لهم مصدرا كبيرا للتسلية، الوحيد الذى دوما ما تظهر عليه علامات عدم التصديق هو حموده، خاصة عندما أسترسل فى وصف بياض بشرة إيلين وعينيها الزرقاوين، أنظر إليه فأجد ضحكات مكتومة، حاولت ذات مرة معرفة ما بداخله

-(بتهكم) ياد يا حموده، بقى أنت مش مصدق إنى بروح باريس وليا صديقه هناك

-(بإبتسامة خبيثة) صدقنى يا أستاذ أنا أكتر واحد مصدقك، وأكتر واحد عارف اللى فيها

لم أفهم كثيرا كلماته ولا سبب إبتسامته الخبيثة، فأبتلعت الأمر، لعل الزمن يفسر لى ذلك يوما ما.

الثامنة مساءا، أفتش فى جيوبى بعد أن تركت المقهى فلا أجد مفاتيح المنزل، قررت العودة للبحث عنها، لأجد حموده يرص أحجار الشيشة لزبون جلس على المقعد الملاصق للبوابة الزجاجية، لم أميز ملامح الزبون جيدا فى البداية، لكن لفت إنتباهى بشدة أن إيلين وحموده يتبادلان النظرات من خلف البوابة، فى بادئ الأمر تصورت أنها تهيؤات خاصة بى، لكن ما إن فرغ حموده مما فى يده، حتى عبر البوابة لإيلين، حينها هرولت نحوهما ولكننى لم ألحقهما، فقد خرجا من باب المقهى الباريسى متشابكين الأيدى يركضان فى شوارع باريس، حتى أختفيا عن ناظرى وسط الزحام، وقطعا لم أذهب خلفهما خشية أن لا أستطيع العودة.

عدت للمقهى وأنا حائر، فمنذ متى وحموده يعرف بوجود البوابة، وكيف واتته الجرأة التى لم تواتينى وقرر الخروج مع إيلين من باب المقهى الباريسى، ولم يخشى على نفسه من أن تلتهمه تلك المدينة الكبرى ويتيه فيها ولا يستطيع العودة، حينها شعرت بوخز الضمير فماذا لو كانت قصصى هى التى شجعته على ذلك، فأنتابتنى حالة من الضيق، قطعتها إبتسامة عفوية ملئت وجهى، عندما تذكرت السعادة على وجه إيلين وهى تضع يدها فى يد حموده، وهما يسيران فى تناغم.

على غير توقعى، عاد حموده ليغير حجر الشيشة للزبون الذى بدأت أميز ملامحة، رجل خمسينى، منهمك فى قراءة صفحة الوفيات بالصحيفة، ويبدو عليه أنه موظف أشبه بموظفين الأرشيف الذين نراهم فى الأفلام القديمة، يشبهنى إلى حد كبير حتى فى إهتمامه بقراءة صفحة الوفيات، لدرجة أننى ظننت نفسى أنظر فى المرآة، ناديت على حموده، لكنه لم يسمعنى، حاولت لفت انتباهه بشتى الطرق دون جدوى، ذهبت للتحدث مع بعض الزبائن الآخرين لكن كأن لا أحد يرانى أو يسمعنى، ومع تكرار المحاولات فهمت الأمر، هناك بوابة زجاجية جديدة تفصل بينى وبين باقى المقهى بمدينتيه، يبدو أننى عبرتها دون أن أدرى، ولكن عبور ذاك النوع من البوابات صار أمرا معتادا بالنسبة لى، فلم أندهش.

منتصف الليل، تتجول المدن فى وسط القاهرة كما يتجول المارة، فمنذ أن عبرت تلك البوابة وأنا أقابل مدينة جديدة من تلك التى تمنيت الذهاب إليها يوما ما ولم تواتينى الجرأة أبدا، فأستكشف معالمها عن قرب، جوهانسبرج، برلين، باريس، روما، نيويورك، طوكيو، بوينس آيريس وغيرها، كلها مدن جاءتنى مؤخرا، وأحيانا أيضا تتجول الأزمنة، فبالأمس على سبيل المثال حضرت موكبا جنائزيا لأحد ملوك الفراعين بطيبة، ثم جلست بعدها فى مقهى بأحد الفنادق العائمة على النيل بالأقصر، وأنا أتابع عن قرب مركب الشمس التى أبحرت بصاحب الموكب الجنائزى فى عرض النيل، والرهبة والقلق اللذان تملكانه وهو يحاول تذكر أسم الثعبان الحارس لبوابة العالم الآخر التى سيمر منها، حتى يتمكن من عبورها.

كل ذلك كان يحدث على مقربة من ميدان طلعت حرب، وهو ما سمح لى دوما بأن أذهب مع نهاية كل نهار عند البوابة الزجاجية، ألوح من خلفها لإيلين وحموده وهما يجلسان فى المقهى، فيلوحان لى، ثم أسترق النظر للرجل الخمسينى وهو مازال يقرأ فى الصحيفة، لأرى المشيب يزداد بفروة رأسه يوما بعد يوم، ويزداد معه إنكبابه على مطالعة، صفحة الوفيات.

Illustration by Karen Keyrouz

About the Author

Mohamed Matbouly

Mohamed Matbouly, an Egyptian writer living in Cairo, was born in 1982 and holds a bachelor’s degree in mechanical engineering. He has published the short story collection Gamophobia, and was awarded second place in the Cairo Short Story Competition organized by Goethe Institute in 2019 for ‘In the Cities of Central Cairo’, and his short […]

Related