Read time: 1 mins

حياة زوجية

by Majdal Hindi
24 August 2020

– صباح الخير يا كبيرة.

حاولت إخفاء معالم وجهها المشفقة خلف شاشة الحاسوب الضخمة. لقد اعتاد هذا الشاب إلقاء التحية عليها في كل مرة يمر فيها من أمام مكتبها على وجهه ترتسم ابتسامة ساذجة لطالما شعرت بأنه سوف يصاحبها سيلان لا إرادي للعابه. لكن هذا لما يحصل أبداً إلا في مخيلتيها. منذ يومه الأول في العمل في قسم التنظيف، لاحظت أن له كتف أعلى من كتف، هذا بالإضافة إلى سحبه لرجله اليمنى في محاولة منه للمشي بصورة طبيعية. لم تتوقف إعاقته عند جسده بل وصلت إلى لسانه. لكن على الرغم من عدم سلامة نطقه للحروف إلا أن السباب والكلمات القذرة لم تبارح لسانه، فيضحك له كل من حوله مراعياً مشاعره، مشفقاً عليه.

ذات يوم عرج إلى مكتبها بابتسامته المعهودة طالباً منها ترجمة بعض الأوراق الشخصية من العبرية إلى العربية. طلبت منه الجلوس إنتظاراً لاتمام عملها والشروع بعدها فوراً بخدمته. إختفت لفترة وجيزة لقضاء بعض المهام، ثم عادت إلى مكتبها لتجد عامل النظافة بوقفته غير المستقيمة، يقف خارج المكتب مكفهر الوجه، فسألته عما حدث، ولم يرد. أسرعت السكرتيرة الاسرائيلية زميلتها في العمل بإعلامها بأن المدير لا يرغب بوجوده في المكتب وقد طلب منه مغادرته.

عبست هي احتجاجاً على قرار مديرها، ودعت عامل النظافة إلى الجلوس مجدداً في مكتبها. جلس عندها متوجساً من احتمال حدوث مشكلة ما بسببه.

في تلك الأثناء، أسرعت السكرتيرة بإخبار المدير بفعلتها، والذي توجه إلى مكتبتها آمراً عامل النظافة بالخروج في الحال. قفزت هي من مقعدها مدافعة:

– ما بالك وبال هذا الشاب؟ لقد طلب مني خدمة وسيخرج حين أنهي ذلك!

لكن المدير عاد إلى الصراخ طارداً إياه. أحست إثرها بجسدها ينتفض من فرط الانفعال، وأخذ صدرها يعلو ويهبط من هذا الظلم غير المبرر. فمنذ بدأت عملها في هذا المكان غضّت طرفها عن العنصرية المقيتة الموجهة ضد العاملين الفلسطينيين في المكتب من قبل مديرها هذا الصهيوني المتطرف.

عادت يومها إلى بيتها مشحونة بمشاعر الكراهية والغضب الأسود، لاعنة الاحتلال شاعرة بالقهر والعجز. روت قصة عامل النظافة لوالدتها، ثم لزوجها، ثم لأصدقائها، ولنفسها، آلاف المرات، لتظهر بشاعة الاسرائيلي المحتل؛ متسائلة في كل مرة، “هل شاب ذو إعاقة يعمل في التنظيف أقل منزلة من أن يجلس في مكتب للانتظار؟ هل هي إعاقته أم نوعية عمله أم قوميته تجعله أقل

شأناً؟”

كانت هذه الحادثة قد أثرت في نفسها مدة طويلة، أصبحت في أعقابها تبادل الشاب تحية الصباح وابتسامة ساذجة لا تحاول أكثر إخفاءها وراء أي شاشة. في المقابل ازدادت طلبات العامل لها بالترجمة، فطباعة الأوراق، لدرجة أصبحت فيها أشبه بسكرتيرته الخاصة التي لا تقوى على رفض طلباته، فبعد موقفها الشهم بالدفاع عنه، كانت قد وضعت نفسي في منزلة البطلة.

في صباح أحد الأيام وكعادتها في الجلوس في مكتبها لشرب الشاي، مسترقة السمع لأحاديث السكرتيرة التي لا تنتهي مع الموظفين وعلى الهاتف مع والدتها وجميع أهلها في العالم قاطبة. أقبلت السكرتيرة عليها بعد أن أنهت مكالماتها الصباحية لتخبرها بأن عامل النظافة متزوج من اثنتين وقد سمعت ذلك من أحد الموظفين، فعلقت هي:

– لا بد أنها مزحة، لا أصدق أنه يستطيع الزواج، فكيف باثنتين.

انتظرت مرور عامل النظافة اليومي بمكتبها للقيام بتنظيفه، حيث قررت الحديث معه لأول مرة في أمور شخصية، فقد لجمت فضولها في التعرف على حياته الشخصية حتى تلك اللحظة حفاظاً على مسافة من البعد من شأنها أن تفرض الاحترام المتبادل بينهما، وربما حفاظاً على خصوصيتها من لسانه القادر على نقل الأحاديث بين الموظفين. وهكذا حالما وصل المكتب، اندفعت بسؤاله:

– هناك بعض الشائعات التي تدور في المكتب وتقول بأنك متزوج من اثنتينن، هل هذا صحيح؟

ابتسم الشاب إبتسامته الساذجة إياها، ولكن هذه المرة فعلاً رأت لعابه يسيل، حين أجابها:

– نعم، لدي زوجتين وطفلين من كل واحدة.

تابعت بسؤاله:

– وهل تسكن الزوجتان معك في البيت نفسه؟

رد ضاحكاً:

– لا، لدي بيت مؤلف من طابقين. لكل واحدة منهما شقة، وأيامي مقسمة بينهما، بينما إجازتي يوم السبت أقضيها على سطح البيت.

لم تدرك لحظتها إن كانت تبادله ابتسامته الساذجة، أم أنها بدت ساذجة فعلاً بعدما امتثل أمامها عام كامل من استخدامه لها كسرتيرة له، وشعور البطولة الذي لبّسته لنفسها. أخيراً مسحت لعابها وأخفت وجهها مجدداً وراء الشاشة، في حين أخذ حديث عامل النظافة يحوم حولها كذبابة.

***

فتحت عينيها بعد منتصف الليل مقاومة الضوء الفجائي. تحسّست وجود زوجها بجانبها، فلم تلمس يدها إلا الهواء. رددّت اسمه عدة مرات علّه يسمعها، فاستجاب لندائها أخيرًا، قائلاً:

– نعم يا حبيبتي.

حاولت أن تنظّم كلماتها في سؤال، فما زالت نصف نائمة:

– أين أنت؟ ولماذا لم تنم حتى الآن؟

أجابها:

– هناك ذبابة تتجوّل في البيت منعتني من النوم، أحاول ملاحقتها منذ ساعات.

جاهدت نعاسها بالرد عليه:

– أترك النافذة مفتوحة، سوف تخرج بعد حين.

انقطع حديثها تاركة زوجها ممسكاً بقميص صيفي أبيض محاولاً قتل الذبابة. أرادت أن تقول له اختر قميصاً ملوناً، فآثار دم الذبابة المغدورة لن تزول عن القميص وسوف يصعب عليها غسله، لكنها قالت ذلك في أحلامها إذ سرعان ما غطت في النوم.

تكرّر نفس المشهد في الليال اللاحقة، فقد أخذت تستيقظ في الوقت نفسه، تتفقد وجود زوجها بجانبها. وفي كل مرة ترى زوجها ممسكاً ذات القميص، قاطعاً البيت ذهاباً إياباً باحثًا عن الذبابة لقتلها. وفي كل صباح، قبل أن تتوجه إلى عملها، تسأل زوجها إن تمكّن من قتل الذبابة. اعترتها ريبة وضاق صدرها بشك لم تستطع أن تخفف حدته بعد سلسلة من ليال متشابهة، حول احتمال ظهور زوجة ثانية له. وفي إحدى النهارات التالية، قررت التوجه في طريق عودتها من العمل إلى والدتها لزيارتها.

دخلت بيت والدتها ثم جلست في المطبخ تراقب انشغال الأخيرة في إعداد الغداء. لاحظت والدتها شرودها فسألتها:

– ما بالك؟ لماذا تلزمين الصمت على غير العادة؟

أجابت:

– لا أدري، هناك أمر غريب، أستيقظ كل ليلة، فلا أجد زوجي بجانبي، وفي كل مرة أسأله عن سبب عدم نومه، يخبرني بأن هناك ذبابة تمنعه من النوم. في بعض الليالي يصعب علي التمييز إن كان فعلاً يلاحق هذه الذبابة أو أنه مشغول بجهازه المحمول أو حاسوبه الشخصي، لا أقوى على مراقبته ماذا يفعل ليلاً، أتراه يحادث فتاة أخرى؟

سألتها أمها:

– هل تراقبين محادثاته؛ جهازه المحمول وحاسوبه الشخصي؟

أجابت:

– نعم. أفعل ذلك يومياً، لكن لم أجد أي شيء حتى الآن يدعو للشك. ماذا أفعل؟

ردت أمها بغيظ:

– لم أحب زوجك هذا أبداً، فهدوءه مقلق وابتسامته صفراء. كم نبّهتك من هذا الزواج، لكنك عنيدة.

أجابت بأسى:

– أنت محقة، أشعر بالندم فعلاً، فبالإضافة إلى بروده، لديه عادات غريبة. يرمي ملابسه في جميع أنحاء البيت. في بعض الأحيان أجد ملابسه الداخلية تحت الوسادة وجواربه في جيب بنطاله، كما وأنه لا يعيد الأشياء إلى أماكنها. يأكل ويترك بقايا الأكل على المائدة. لقد عفت الحياة معه.

تابعت الأم وابنتها جلستهما، ليتسع الحديث عن زوجها ويصل إلى زوج أختها وأبيها، وعن عادات أزواجهم الغريبة، وقناعتهما المطلقة بحتمية الطلاق، فالحياة قصيرة، ولا بد من تصحيح بعض القرارات. غادرت الابنة بيت والدتها واعدة نفسها بالخلاص من هذه الحياة الزوجية بالكامل.

انتظرت عودة زوجها لتواجهه بشكوكها واستياءها من تصرفاته. استلقت على الكنبة شاعرة ببعض الجوع عندما أقبل زوجها مبتسماً كعادته، فكّرت بتأجيل نقاشها معه، فهو من يعد لها طعام العشاء. أنهيا عشاءهما، فطلبت منه غسل الأطباق واللحاق بها إلى السرير. نادت عليه من سريرها ليناولها كاس ماء. شكرته مبتسمة ناسية استياءها والنقاط التي يجب أن توضع على الحروف وغطت في سبات عميق. استيقظت بعد منتصف الليل كعادتها، شاعرة هذه المرة بتهيج في جلدها. حررت يدها المتعرّقة من يد زوجها لتبعد ذبابة حطت على وجهها، ثم باشرت بالحك.

 

Illustration by Amy Chiniara.

About the Author

Majdal Hindi

Majdal Hindi, born in Jerusalem, holds a bachelor’s degree in accounting from Birzeit University and a second degree in European studies from the Hebrew University, where she is currently studying for a second degree in data analysis. Her story ‘Eternal Prison’ won the Al-Razi Association competition in 2007, her story ‘A Very Long Night’ was published in 2018 in a booklet produced by the Khalili Sakakini Center.  

Related