Read time: 1 mins

وضعني في فقاعة

by مروة ملحم
17 May 2018

بعد لحظات قليلة ستسمعون صوتاً مدوياً.. إطلاق نار من مكان مرتفع جداً في الفراغ. سيكون الصدى هائلاً. لكنكم ربما معتادون على الأصوات الصاخبة ولن تعرفوا ما الذي يحدث…

في زمن سابق، كنت مختلفة عما أنا عليه الآن، يوم أنجبتني أمي، فرحت كثيراً مع أنها عرفت مقدار الخطأ الذي ارتكبته، عرفَت أنها تنجب ابنتها في معتقل، وأنه سيصعب عليها حمايتها أو تهريبها، لكنها فعلت ما فعلته على جميع الأحوال.

دفنَتْ أمي والقابلة طفلين قبلي، وكان هذا أفضل ما حدث لهما، ثم جئت أنا. يقولون إنني انزلقت من رحم أمي حاملة حقيبة على ظهري ومستعدة للرحيل، وبعضهم يقول إنني جئت غاضبة، ويجمِعون على أنني كنت عنيدة جداً حتى أنني بدأت بتنفيذ الإضرابات منذ أشهري الأولى.

الديكتاتور إله. له أعين في كل مكان، أينما مشيت تجده، أي شيء تقوله يسمعه. كانت كل تحركاتي موضع اشتباه له، وكل كلماتي تهديدات، كانت ألعابي تثير حنقه وخطواتي السريعة في المعتقل تغيظه جداً، كان يصرخ دون سبب، وأحياناً كان يضرب أمي لحجج واهية، فقط لتفريغ حقده الذي لم نعرف من أين جاء، كنت صغيرة لدرجة أنني أفلت من يديه إن حاول ضربي، كان يتعب من صغر حجمي وقدرتي الدائمة على السخرية، فيتجنّبني.

أول احتدام بيننا كان حين فتحت درج أدواته. لم يكن مقفلاً، لكن ، كنا ندرك أن علينا عدم فتحه، أو حتى الاقتراب منه. وجدت في الدرج صوراً قديمة للديكتاتور، يظهر وحده دائماً، مشدود الظهر، مسدّداً نظره نحو الكاميرا بشكل ثاقب. لم تكن الصور مؤطرة، وكان ثمة إطارات فارغة موضوعة جانباً. الجارور شديد الترتيب، في طرفه قطع من مسدّسات قديمة، ليست جميلة لكنها ثقيلة الوزن، وإلى جانبها بعض الرصاصات المبعثرة. كان فيه أيضاً مفكّرات ودفاتر قديمة، فارغة تماماً وصفحاتها الأولى ممزقة، قداحة فارغة، سبّحة منفرطة، مفاتيح، صغيرة وكبيرة، بعضها أشبه بمفاتيح الأصفاد، وبعضها ربما مفاتيح بوابات ضخمة تخيّلتها يومها مفاتيح عالمه السحري وقلعته التي يذهب إليها ليلاً.

يومها استشاط الديكتاتور غضباً، صرخ في وجهي حتى شعرت أن وجهه يتشقق. جحظت عيناه واحمرّت العروق الصغيرة بداخلها. كسر أشيائي، داسها بقدميه وهشّمها، هيكل الدراجة الذي صنعته من الخردوات وحلمت كل ليلة أنه سيسير، الأوراق التي رسمت عليها أصدقائي، قطّع الخيوط التي ربطت رسائلي بالطائرات الورقية، هدم كل مملكتي، وجعلني أكبر في ليلة واحدة.

عندما صحوت في اليوم التالي، كانت قامتي قد استطالت، وجسدي قد اكتسب وزناً إضافياً، برز نهداي وأصبح شعري مموّجاً وسميكاً.

كبر المعتقل، أصبح يحوي غرفاً أكثر، ونوافذ أقل. ازدادت أمي نحولاً، وإخوتي بلاهةً. كان أخي الأصغر مني يعرف كيف يتسلّل ليلاً، لكنه لم يكن يفعل شيئاً سوى الاستلقاء في حفرة تشبه القبر في حديقة البيت الخلفية، وأخي الآخر يضع في غرفته الكثير من المرايا، وكنا حين نبكي أو  نضحك أو نصرخ، يأخذنا إلى غرفته. يتوسّل إلينا أن نكرّر انفعالاتنا أمام المرايا، ويصرّ على أن مراياه تحفظ كل شيء وأنه قبل أن نموت، سوف يعرض علينا شريط الصور، كل شيء من البداية إلى النهاية.

أما أنا، فقد كنت مشغولة بمراقبة الديكتاتور، كنت أقضي ساعات في محاولة رسم عينيه، خاصة حين يتطاير منهما الغيظ والشرّ. عيناه صغيرتان، تحتفظان دائماً بإمكانية الاتساع فجأة. يداه نحيلتان، نظيفتان، أظافره مقلّمة دائماً ورائحته عطرة. يرتدي ثياباً فضفاضة لكنها أنيقة، يضع حزاماً على خصره ويشدّه. له شارب يمشطه بحرص شديد في الصباح وفي المساء. يعتني كثيراً بشفرات الحلاقة، و بالمشط الذي يسرح به شعراته القليلة.

كنت أتأمل علاقته بالأشياء و بنا وبالناس من حولنا. حرصه المتوتّر، نقمته الغريبة وانفعالاته العشوائية. أحاول تفسير ما يطرأ فجأة على مزاجه. غضب أحياناً، حزن في أحيان أخرى، حنان غير مبرّر يهبّ ويختفي كان يجعله مرات يزورنا في غرفنا ويقدّم لنا الماء البارد، أو بعض المكسرّات الرطبة. كان يتمشّى في المعتقل وحيداً، بخطى هادئة جداً، وحدث أنني رأيته يبكي في مناسبات عدة. جلست في ليال باردة خلف ثقوب الأبواب وشقوق الجدران، أشاهد دموع الديكتاتور.

لم ينتبه الديكتاتور كيف كبر سجناؤه فجأة. حتى أنهم صاروا يفكّرون! لم ينتبه للرسومات على الجدران، ولا للعوالم الصغيرة التي بنيناها في أحواض السمك، أو لخيالنا الذي تكاثر في المعتقل و نما مثل أحلام طويلة. كبرنا في غفلة منه، بينما أعماه غروره عن الأشرعة التي فتحناها من النوافذ.

ظل غافلاً حتى اكتملت أجنحة أخي، وطار من المعتقل محدثاً ضجيجاً هائلاً. حينها انتفض ونهض مهتاجاً إلى سلاحه، أطلق رصاصة على جناح أخي، فأسقطه في الحفرة ذاتها، التي اعتاد الاستلقاء بها.

صرخت يومها حتى تمزقت حنجرتي. تكسرّت المرايا، وأصيبت أمي بالصمم، فاضطر الديكتاتور لحشو فمي بالقماش وحبسي.

كان ذلك منذ ست سنوات تقريباً. حبسني في فقاعة كبيرة، ولم تكن كالفقاعات التي تعرفونها، تلك الأجسام اللطيفة الشفافة التي تتلوّن مع الضوء وتطير، وحين تمرّ قربكم تنفخونها وتضحكون. تلك تسمّى بالوناً، خليطاً من صابون وماء، أما ما أنا فيه، فهي فقاعة سوداء، مصنوعة ربما من بخار السيارات وآثار زيت القلي العالق على أسقف المطابخ، ومغلقة من الأعلى بمسدّسين متشابكين، معلّقة فوّهة الأول بزناد الآخر، أي محاولة لفتح الفقاعة ستؤدي لإطلاق النار على الرأس مباشرة.

بداية احتجازي، جلست صامتة منتظرة أن أخرج أو أن أتعوّد. جرّبت أن أتحسّس جدارها المرن بقدمي، فجذبتني إلى الداخل كرمال متحركة. شاهدتكم من الأعلى، لوّحت لكم، بعضكم رآني ونفخني قليلاً، بعضكم ابتسم بشكل عابر ومضى. بعدها صرت أحاول الوقوف، في كل مرة صرت أترّنح وأسقط، وأعاود الوقوف. بدأت أخبط بيدي على الجدران، بدأت أصرخ، لم يسمعني أحد، عاد الصدى فقط ساخراً كأنه صوت شخصية كرتونية. حاولت ثقبها بأظافري، فلسعني شيء أشبه بالكهرباء، حينها فقط تكوّرت على نفسي وبكيت، بكيت بصوت عالٍ على غير عادتي، أردت لدموعي أن تنهمر على هذا العالم، أردت أن أثير انتباهكم بحزني، لكن لم يحدث شيء. صارت الفقاعة الطائرة معتقلي الجديد، بيتي الغامق، مكان لا أرى منه وجه الديكتاتور لكنني أسمع صوته وصداه.

لم أرد أن يسحقني هذا المكان باستدارته المحيّرة، أردت أن أحتفظ بغضبي لربما أستطيع تجميعه لحرق الفقاعة، لكنني استسلمت رغماً عني، صرت أراقب فقط، لا أضحك ولا أبكي، وفي الأيام القليلة التي تحطّ فيها الفقاعة على الأرض، أحاول دحرجتها بجسدي، ولمس الناس، ثم استهجن هذا الشوق الذي يجتاحني، هذا الحنين المزيّف الذي لا أعرف من أين جاء. ويصبح التفاهم مع نفسي صعباً.

أشعر أنه عبر جدران فقاعتي يراقب تصرفاتي، يراقبني كيف سأجرّب الخروج مجدّداً، فيجعلها تتنطّط بعنف و تسحقني بداخلها، لطالما شعرت أن صوت قفزاتها شبيه بالقهقهة، لطالما عدت للتوسّل والنحيب والصراخ.

الصراخ بوجه العالم، العالم المكتظ بالسجون و الطغاة، طغاة صغار وكبار، العالم الذي أتخيله وحشاً يحدثنا وفمه ممتلئ بالطعام، الذي يجيبنا من خلف ثقب صغير مريب. ويضع أسئلتنا في صندوق الشكاوي حتى تهترئ وتتحلل كلماتها.

كتبت كل هذا على خرقة مزقتها من ملابسي، أفكّر برميها قبل وصول الرصاصة إلى رأسي، ربما أجد بعد أن أموت تفسيراً لما حدث.

لم تنزل الفقاعة، لم تقترب من الأرض، لم أر أمي أو أخي مجدداً، ولم أعرف إن كان الديكتاتور ما زال يتذكر وجودي. في الحقيقة، حتى أنا بدأت أنسى، أغلب ما أقوله شبيه بالهلوسة، كأن مرايا أخي سكنتني، وسحرها صار بداخلي، أردد ذكريات لا أعرف من أين أتت، أبكي وأبتسم كفعل ارتدادي،  لأصوات لا أعرف متى سمعتها.

أظن أنني في أحد الأيام رأيت أخي الميت يطير هنا، جسده شفاف ويداه رخوتان، كان يلوّح لشيء ما وعلى وجهه ابتسامة طفيفة ذابلة، ربما يلوّح لي، ربما للفراغ، ربما لحفرته التي قضى أغلب عمره فيها، كان تحليق روحه خفيفاً مثلما كانت حياته. وأظن أنني أيضاً رأيت أمي، بشعر أشيب ووجه كثير التجاعيد، كانت تتّجه نحو السماء وكأنها تكرُّ من مكبّ صوف كالذي قضت عمرها تنسج به، كان عمراً بارداً ذاك الذي مرّ عليها.

ربما يكون الصغير قد هرب، كان أكثرنا دهاء، ربما تكون مراياه، عن غير قصد، قتلت الديكتاتور، وأطلقت سراحه من السجن ومن الذاكرة، لم أره، لا اعرف ماذا حلّ به، لكنني أتمنّى.

كُتبت قصة “وضعني في فقاعة” كجزء من مشروع بيروت للقصص القصيرة و هو تعاون بين KfW Stiftung و معهد Goethe لتعزيز المواهب الأدبية الشابة في الشرق الأوسط, ويتضمن المشروع ورشات عمل للشباب الذين يكتبون باللغة العربية والذين يطورون القصص القصيرة تحت اشراف كتّاب مشهورين من بينهم عباس خضر و ديما ونوس. يتم بعد ذلك ترجمة أفضل النصوص ونشرها بالعربية و الانجليزية على موقع adda

About the Author

مروة ملحم

تعيش مروة ملحم في سوريا حيث تدرس الهندسة المدنية. تكتب مروة القصص القصيرة و الشعر, كما انها تكتب المترجمات . اشتركت ايضا في كتابة “المشروع الأدبي”  بين الكاتبين السوريين و الالمان. حازت على جائزة القصة القصيرة في جائزة الشارقة لعام 2018. نشرت هذا العام مجموعتها للقصص القصيرة  بعنوان “عين ثالثة”

Related